تُعد مدينة ميدان، إحدى أكبر مدن إندونيسيا، نموذجًا حيًا للتنوّع الثقافي الغني. ومن أبرز الأحياء التي تعكس هذا التراث المتعدد الأعراق هو حي "كامبونغ مادراس"، والذي كان يُعرف سابقًا باسم "كامبونغ كيليغ". لم تكن هذه التسمية مجرد تغيير في الاسم، بل تمثّل قصة تاريخ طويل للجالية الهندية في المدينة.
يعود أصل هذا الحي إلى الحقبة الاستعمارية، عندما ازدهرت صناعة زراعة التبغ في منطقة ديلي. في أواخر القرن التاسع عشر، كانت الإدارة الاستعمارية الهولندية بحاجة إلى عدد كبير من العمال لتشغيل المزارع الواسعة. ونظرًا لعدم كفاية القوى العاملة المحلية، تم استقدام عمال من الخارج، من ضمنهم هنود من جنوب آسيا.
كان معظم هؤلاء العمال من ولاية تاميل نادو والمناطق المجاورة لها. جُلبوا بنظام العمل التعاقدي، واستقرّوا في المنطقة التي تُعرف اليوم بـ "كامبونغ مادراس". وقد أسهم وجودهم في تشكيل الطابع الاجتماعي والثقافي لميدان.
في البداية، عاش العمال الهنود في منطقة منعزلة نسبيًا عن مركز المدينة. ومع مرور الوقت، تطورت هذه المنطقة إلى مجتمع نشِط بثقافته الخاصة ومعتقداته الدينية وتقاليده التي تميّزه عن غيره من الأعراق في ميدان.
بسبب لون بشرتهم الداكن، أطلق السكان المحليون على الحي اسم "كامبونغ كيليغ"، وهي كلمة مشتقة من "كالينغا"، وهو اسم لمملكة قديمة في الهند. غير أن هذه الكلمة أصبحت بمرور الزمن تُعتبر عنصرية ومهينة.
وعلى الرغم من شيوع هذا الاسم لسنوات، إلا أن تنامي الوعي الاجتماعي جعل العديد يعارضون استخدامه، معتبرين أنه لا يُظهر احترامًا لمساهمة المجتمع الهندي في المدينة.
لم يأتِ طلب تغيير الاسم فقط من الجالية الهندية، بل أيضًا من مجموعات محلية تُعلي من قيمة التسامح والتنوع. استجاب مجلس بلدية ميدان لتلك الدعوات، وبدأ في مراجعة أسماء المناطق التي قد تحمل دلالات عنصرية أو تمييزية.
وفي عام 2008، تم تغيير اسم الحي رسميًا من "كامبونغ كيليغ" إلى "كامبونغ مادراس". يشير الاسم الجديد إلى مدينة "مادراس" (التي تُعرف الآن بـ "تشيناي")، عاصمة ولاية تاميل نادو، والتي تعود أصول العديد من سكان الحي إليها. وقد اعتُبر هذا الاسم أكثر احترامًا وتمثيلًا لهويتهم الثقافية.
رحّب العديد من أبناء الجالية الهندية بهذا التغيير، معتبرين إياه اعترافًا رسميًا بمكانتهم التاريخية في ميدان، وخطوة إيجابية نحو مجتمع أكثر شمولية.
اليوم، لا يُعد "كامبونغ مادراس" مجرد حي للجالية الهندية، بل وجهة سياحية ثقافية شهيرة. تُقام فيه فعاليات دينية وثقافية كبرى، مثل مهرجانات "ثايبوسام" و"ديوالي"، التي تستقطب الزوار من داخل إندونيسيا وخارجها.
يضم الحي معابد هندوسية، وكنائس كاثوليكية هندية، ومطاعم تقدم المأكولات التقليدية من جنوب الهند، مما يعكس الطابع الثقافي الفريد للمجتمع.
كما أن المدارس والمؤسسات الاجتماعية والدينية في المنطقة تشهد ازدهارًا، مما يدل على بيئة مجتمعية نشطة ومتسامحة يعيش فيها سكان من خلفيات مختلفة في انسجام وسلام.
إن تحول "كامبونغ مادراس" يعكس كيف يمكن للوعي المجتمعي أن يعيد تشكيل الهوية الجماعية. فبعد أن كان الاسم السابق يحمل دلالات سلبية، أصبح الحي رمزًا للفخر الثقافي والوحدة.
وتواصل حكومة ميدان دعم هذا الحي وتطويره ليكون مركزًا للتراث والسياحة الثقافية، ونافذة على الإرث الهندي داخل إندونيسيا.
تُظهر هذه القصة أن الماضي، إذا ما تم التعامل معه بحكمة، يمكن أن يكون أساسًا لمستقبل أكثر شمولًا واحترامًا للتعددية. ورغم تغيير الاسم، لا تزال مساهمات الجالية الهندية راسخة في قلب ميدان.
ويبرهن هذا التغيير أن مدينة ميدان لا تنمو اقتصاديًا فقط، بل أيضًا اجتماعيًا وثقافيًا. ويُعد تغيير الاسم من "كامبونغ كيليغ" إلى "كامبونغ مادراس" خطوة هامة نحو تعزيز الكرامة والاحترام للتنوع الثقافي.
وفي الوقت الحاضر، يُعتبر "كامبونغ مادراس" رمزًا للفخر الثقافي الهندي في ميدان، ورسالة قوية عن التسامح والتفاهم المتبادل. من جذور استعمارية إلى رمز حديث، يروي هذا الحي قصة الرحلة متعددة الثقافات لمدينة ميدان.
0 التعليقات:
إرسال تعليق